اليمن الإقتصادي :

 خالد عبدالواحد

بهِمّة ونشاط يقوم سالم حيدر "عامل نظافة" في جمع المخلفات في شارع القاهرة في منطقة الثورة شمال العاصمة صنعاء. لا يرتدي كمامة أو بدلة خاصة بعامل النظافة، ولا حتى أي مستلزمات وقائية، حتى تجنبه الإصابة بالفيروس الخبيث.

سالم ذو الخمسة والعشرين عامًا، والذي يعمل منذ ست سنوات في صندوق النظافة والتحسين التابع لحكومة صنعاء، عندما يعود إلى منزله منهكاً بعد عشر ساعات من العمل المتواصل في جمع المخلفات من الشوارع والحارات، غالباً لا يجد المياه النظيفة لإزالة ما علق به من أوساخ وآثار جراء عمله المضني والشاق في مجال النظافة.

يقضي عمال النظافة في اليمن ساعات طويلة في جمع المخلفات من شوارع وأزقة المدن اليمنية، رغم ذلك يعيشون ظروفًا اقتصادية وإنسانية صعبة؛ إذ ينتمي غالبيتهم إلى فئات المهمشين، هذه الفئة التي يصل عدد أفرادها إلى نحو أربعة ملايين شخص، ويشكلون ما نسبته 10% من تعداد السكان تقريبًا.

«نشعر بخوف كبير من الإصابة بوباء كورونا، لكن ماذا نعمل، ما باليد حيلة، صندوق النظافة لا يقدم لنا ملابس أو أقنعة وجه وكمامات، وحتى المنظمات الدولية لا تقدم لنا شيئًا»، يقول سالم حيدر الذي يعيش هو وأسرته في غرفة صغيرة مبنية من ركام المباني ومسقوفة بكيس بلاستيكي، في حي المهمشين بمنطقة دار سلم جنوبي العاصمة صنعاء.

يكشف سالم سبب بقائه في العمل رغم المخاوف من الإصابة؛ إذ يقول لـ"خيوط"، «مجبرين على العمل حتى في زمن كورونا، لو توقفنا وخفنا، ستعج الشوارع بالمخلفات، الأمر الذي  سوف يزيد من عدد المصابين بالأمراض والأوبئة، كما أننا لو توقفنا ستنقطع مرتباتنا ولقمة عيشنا».

في حال قرر سالم شراء الكمامات بشكل يومي وأيضًا المعقمات وأقنعة الوجه والكفين، لن يكفيه الراتب الشهري الذي لا يزيد عن 30 ألف ريال يمني (50 دولار أمريكي) في توفيرها بشكل يومي إلى جانب مصروفاته الأساسية، فسعر الكمامة باليمن وصل إلى 250 ريال رغم أن سعرها لم يكن يتجاوز 50 ريالًا". ناهيك عن ارتفاع قيمة المعقمات والمستلزمات الوقائية الأخرى بنسبة تجاوزت 400%.

يعيل سالم ثلاثة أطفال، ويخشى مِن أن يعود إلى منزله وأهله حاملًا الوباء، فيصيبهم جميعًا؛ حيث لا يوجد لديه غرفة أخرى للاعتزال ولا المال حتى يتمكن من الذهاب إلى المستشفى للعلاج، وحتى إن توفر المال، يزعم سالم أن غالبية المشافي سوف ترفض استقباله؛ لأنه من ذوي البشرة السوداء. 

 

‍بلا حقوق ولا تقدير

"عمال النظافة جنّدوا أنفسهم لتنظيف وجه اليمن حتى يكون جميلًا، إلا أنهم يعيشون حياة بائسة بين القاذورات والأوساخ"، يقول مجاهد عزان شيخ المهمشين في دار سلم. حيث يعود عمال النظافة إلى مساكنهم المبنية من الصفيح والطرابيل الممزقة وإطارات السيارات، والتي لا تمتلك أيًّا من مقومات الحياة الآمنة، مثل شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء.

ويؤكد مجاهد في حديثه لـ "خيوط" أن الخدمات العامة هي أقل مكافأة لهم، التي تعد في الأساس حقًّا عامًّا لجميع اليمنيين، يمكن أن يحصل عليها عمال النظافة مقابل ما يبذلونه من جهد في رفع آلاف الأطنان من المخلفات بشكل يومي.

يكشف مجاهد جانبًا من معاناة عمال النظافة بشكل خاص، والمهمشين بشكل عام، مشيرًا إلى أن الراتب غير كافٍ لتوفير مصروفات العامل وأسرته، كما أنه لو أصيب أحدهم بالوباء لن تقبل المشافي استقباله؛ لكونه من المهمشين ولكونه عامل نظافة "تنبعث من ملابسه روائح المخلفات".

يختم عزان حديثه "لو قضى أحدهم عمره في العمل ومات، لن يجد أطفاله راتبًا تقاعديًّا ولا حتى راتبًا شبيه بالرعاية الاجتماعية، في حين ينعم ويعبث نافذون بثروات الشعب وخيراته منذ عقود"، على حد تعبيره.

يصف حقوقيون وناشطون وضع عمال النظافة في اليمن بأنه "سيئٌ للغاية"، حيث إنهم أكثر عرضة لمعظم الأمراض لعدم حصولهم على أدوات السلامة المهنية، من قبل الجهات الحكومية أو المنظمات الإنسانية الدولية.

يحيى الصبيحي الراصد والناشط في حقوق المهمشين، يشير إلى أن معظم عمال النظافة يعملون بالأجر اليومي، وليس لهم أي حقوق من صندوق النظافة والتحسين، ويجري التعاقد مع الكثير منهم لمدة ستة أشهر، ويُجدد العقد معهم، لكن يجري التعامل معهم بعنصرية واضحة؛ إذ يرى الصبيحي في حديثة لـ"خيوط" أن «العنصرية والتمييز والظلم ضدهم أخطر من فيروس كورونا».

ويهدد وباء كورونا حياة عمال النظافة أكثر من غيرهم، فهم من يجمعون مخلفات المشافي والشوارع، والتي تكون محملة بكميات مهولة من الفيروسات ومن بينها وباء كورونا.

وعلى الرغم من أن قطاع النظافة يعد من أهم القطاعات بالنسبة لحماية المجتمع والبيئة إلا أن عامل النظافة في اليمن هو الوحيد في العالم الذي يُحال بعد الخدمة إلى "التسول" بدلًا من التقاعد؛ لأنه ليس موظفًا رسميًّا، وليس له عطلة رسمية أو علاوات، كما أن الكثير منهم يتعرضون للضرب والسب من بعض المواطنين ومن المسؤولين في قطاع النظافة، كما يتعرض الكثير منهم للتوقيف من العمل على الرغم من خدمته سنوات عدة بدون أية حقوق، بحسب حديث الصبيحي.

 

صعوبة توفير الغذاء

يعيش الخمسيني "حسن بخيت" في غرفة تضيق بأفراد أسرته، فلو تعرض لوباء كورونا، لن يجد مكانًا يعتزل فيه.

لديه ثمانية أطفال، يعيش معهم في "كوخ" مهترئ لا يقيهم برد الشتاء ولا يحميهم من الأمطار المتساقطة صيفًا؛ حيث تحولها الأمطار والسيول إلى مستنقع.

يعمل حسن في صندوق النظافة بالأجر اليومي، كما أن أطفاله ونساءه يخرجون إلى الشوارع للتسول لكي يحصلوا على لقمة يسدون بها رمقهم.

«لو جلسنا في المنزل، من سوف يطعمنا» يتسائل حسن في حديثه لـ "خيوط"، ويجيب بنفسه «لو قررنا التوقف سنموت من الجوع. ولو جاء كورونا سيقضي علينا جميعًا، ليس لدينا مكان في حال توقفنا أو تقاعدنا عن العمل، ولا طعام ولا علاج».

وفر صندوق النظافة والتحسين أدوات السلامة لعمال النظافة مرة واحدة فقط، منذ بدء تفشي فيروس كورونا قبل نحو ثلاثة أشهر، بحسب حديث عبد القدوس السلطان مدير مكتب المدير العام لصندوق النظافة بمحافظة صنعاء لـ"خيوط".

يضيف السلطان، أنه في حال شهدت البلاد موجة ثانية من الانتشار للفيروس سيتخذ الصندوق إجراءات احترازية مشددة للحفاظ على أرواح عمال النظافة.

تتبع أمانة العاصمة صنعاء إدارة مختصة بالتأمين الصحي وعملها مشابه لعمل شركات التأمين وقد بدأت بالتعاقد مع بعض المستشفيات حتى تتمكن من علاج عمال النظافة خلال الفترات القادمة.

ويصل الراتب الشهري لعامل النظافة إلى نحو 34 ألف ريال، سواء في أمانة العاصمة أم في محافظة صنعاء، إلا أن الأمانة بالاشتراك مع بعض المنظمات وفرت سلال غذائية لعمال النظافة.

السلطان يؤكد، عدم معرفة السلطات المختصة عدد الوفيات في أوساط عمال النظافة، لأسباب مختلفة منها أن غالبيتهم بالأجر اليومي، كما أنهم لا يتمتعون بتأمين صحي لكونهم غير "مثبتين".

 

نواة العمال

يعيش 90% من المهمشين في اليمن، الذين يعدون النواة الأساسية لعمال النظافة، في تجمعات سكنية مبنية من الصفيح بشكل عشوائي في أطراف المدن، تسمى بـ"المحوى" منعزلة عن بقية السكان، وتفتقر أغلبية منازلهم وتجمعاتهم السكنية لأبسط الخدمات الأساسية الضرورية، منها شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء وغيرها من الخدمات الأخرى، كما يعانون من تمييز عنصري في الحصول على خدمات الرعاية الصحية والخدمات الأخرى.

 

وقبل تفشي وباء كورونا كان أغلب المهمشين يعانون من ظروف صحية بالغة الخطورة؛ إذ يعاني ما نسبته 98% منهم من الأمراض الوبائية المعدية والخطرة، التي عادةً ما تكون سببًا لحصد العديد من الأرواح، لاسيما الأطفال والنساء، بحسب رئيس اتحاد المهمشين في اليمن وعضو مؤتمر الحوار الوطني نعمان الحذيفي.

لو شهدت اليمن موجة كبيرة لتفشي الوباء، فسوف يحصد الكثير من أبناء المهمشين؛ وذلك لطبيعة الأوضاع البيئية التي يعيشون فيها داخل تجمعاتهم السكنية، ناهيك عن ضعف القدرة المادية التي تمكنهم من دفع تكاليف العلاج كونهم لا يحظون بأي نوع من أنواع الاهتمام والرعاية الصحية في المستشفيات والمرافق الصحية العامة التابعة للدولة مقارنةً مع بقية فئات المجتمع.

لا يستطيع عامل النظافة ترك مهنته، حتى وسط تهديد وباء كورونا، فهو لن يجد مهنة أخرى يعمل بها سوى أعمال السخرة في خياطة الأحذية أو جمع العلب البلاستيكية، أو اللجوء إلى التسول.

يقول الحذيفي لـ "خيوط"، إنه لا يُسمح لهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، في الالتحاق في الوظائف العامة وتقلّد الوظائف العليا في الجهازين المدني والعسكري في الدولة.

ويعد قطاع النظافة هو القطاع الذي يُسمح لهم بالعمل فيه؛ ففي العاصمة صنعاء فقط يعمل 3200 عامل بالأجر اليومي وبعضهم براتب شهري، لا يكفي لسد حاجاتهم من الغذاء والدواء والماء والملبس والتعليم.

- خيوط