اليمن الإقتصادي :

شهاب الاهدل
على مر التاريخ الإنساني الطويل لم يستغنِ البشر يومًا عن استخدام الحجر. ففي عصور ما قبل التاريخ استخدمت الأحجار كمقاشط ورؤوس رماح وسكاكين ومطارق. وقبل انتهاء العصر الحجري بقليل، بدأ الإنسان في توظيف الأحجار في بناء أولى الإنشاءات والمباني. 

بطبيعة الحال، لم تكن تلك الإنشاءات حينها معقدة التصميم ولا تحمل أي فائدة وظيفية، بل كانت عبارة عن أحجار ضخمة تُنصب بشكل محدد لتُعبر عن معنى رمزي أو طقوسي. يُطلق على هذه الإنشاءات مصطلح "الميغاليثية"، وهي كلمة مشتقة من الكلمة اليونانية Megalithos، ومعناها الحجر الضخم. وهي عبارة عن أحجار كبيرة ومنتشرة في أماكن محدودة من العالم، دون أن تحمل نقشًا أو علامات توضح سبب إنشائها. وفي هذا المقال نتناول بشكل موجز لمحة عن الثقافة الميغاليثية المكتشفة في اليمن.

أنواع النصب الحجرية والمغزى من بنائها

تُعرف الميغاليثية بأنها نُصب حجرية ذات بعد رمزي أو طقوسي، قامت بإنشائها مجتمعات رعوية قديمة لم تعرف الاستقرار ولم تمارس الزراعة أو الهندسة أو التعدين. وقد توصلت العديد من الدراسات العلمية إلى أدلة وفرضيات تحدد المعزى من بناء هذه النصب. فالبعض منها عبارة عن نصب تذكارية تحدد حدود القبيلة، والبعض الآخر نصب جنائزية لقبور فردية أو جماعية، كما أن هناك ما تم تصنيفه كمعبد بدائي أو مذبح للأضاحي والقرابين. وبشكل عام تنقسم الإنشاءات الميغاليثية إلى نوعين أساسيين، هما: المنهير وهو عبارة عن نصب عمودى ضخم، وكذلك "الدولمن"، وهو نصب من عدة صخور عمودية وضعت عليها صخرة ضخمة بشكل أفقي، فتشكل جميعها إنشاء حجريًّا يشبه حدوة الحصان أو غرفة مسقوفة.

عن الثقافة الميغاليثية في اليمن

يعود أقدم انتشار مكتشف للثقافة الميغاليثية في اليمن إلى الفترة الممتدة من بدايات العصر النحاسي (5000 عام قبل الميلاد) إلى نهايات العصر البرونزي (300 عام قبل الميلاد)، أي إن الثقافة الميغاليثية الرعوية قد تزامنت في فتراتها الأخيرة مع ذروة المجتمعات الزراعية التي أسست الممالك والحضارات اليمنية القديمة، ومارست الكتابة وبناء المساكن والمعابد المتطورة هندسيًّا. 

مع حلول الألف الأخيرة قبل الميلاد حدث تحول في استخدامات النصب الحجرية القديمة في اليمن، فانتشرت ثقافة حرق الموتى. تم تأكيد ذلك مع اكتشاف إحدى النصب الحجرية في وادي الجول في حضرموت، بعد أن وجدت عليها أدلة على ممارسة طقوس حرق الموتى وتقديم القرابين. كما شهد هذا العصر ظهور غرف المقابر الكبيرة (دائرية الشكل)، التي اكتُشف منها حوالي ثلاثة آلاف قبر في رملة السبعتين وصحراء الرويك.


في العام 1997، تمكنت بعثة كندية من اكتشاف عدة نصب عمودية من نوع "منهير" تعود إلى العصر النحاسي، بطول أربعة أمتار تقريبًا، ما زالت إلى اليوم منتصبة بجوار بعضها بعضًا بالقرب من قرية "المدمن" في تهامة، كما تم العثور تحت هذه النصب على جثة مدفونة وأدوات نحاسية قديمة، من ملاعق، وخناجر، ومقاشط، وسبائك نحاسية. وهو ما يدل على مراسيم طقوسية جرت في هذا الموقع. وفي وادي سناء في حضرموت تم اكتشاف نصب حجرية هي أيضًا تعود إلى العصر النحاسي، حوالي 5000 قبل الميلاد، وهي عبارة عن ألواح صخرية ضخمة من نوع "منهير" واقفة بجوار بعضها بعضًا، بنيت في البداية كحلقة شبه دائرية، ويبدو أنها استُخدمت في فترات لاحقة كمعابد بدائية قُدمت فيها الأضاحي.

وبالحديث عن الدولمينات، فقد استطاعت العديد من البعثات الأثرية إلى اليمن العثور على عدة نصب مختلفة من الدولمينات، كدولمين حريب القراميش، شرق صنعاء، ودولمين جبل مصنعة ماريا في غرب ذمار، بالإضافة إلى دولمينات جبال جردان والرويك المعزولة وسط صحراء الربع الخالي. وعلى الرغم من اكتشاف هذه الدولمينات، إلا أنها لم تحظَ بالدراسات المطلوبة لفهم المغزى من إنشائها ولتفسير طبيعة المجتمعات التي قامت ببنائها.

على كل حال، فقد بات بين أيدينا اليوم أرث واضح من الثقافة الميغاليثية في اليمن، وهو بلد لا يزال يحظى بالعديد من المناطق غير المكتشفة كليًّا. وبالتأكيد فإن هناك الكثير من النصب الحجرية التي لم يتم الكشف عنها حتى يومنا هذا، وقد يحمل المستقبل أخبارًا عن اكتشافها في العديد من الجبال المعزولة والوديان النائية في اليمن.
- خيوط