اليمن الإقتصادي :

 اليمن الإقتصادي  - مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية - غيداء الرشيدي 
لطالما شكلت النساء نسبة ضئيلة جدًا في قطاع الأعمال التجارية بعدن، إلا أن نسبتهن انخفضت بشكل حاد عام 2015 إبان غزو قوات الحوثيين وحلفائها للمدينة وبدء حملة تدخل إقليمية لتحريرها. رغم صعوبة الحصول على أرقام دقيقة في هذا الصدد، تشير الأدلة المُتناقلة إلى انخفاض حاد في حصة النساء داخل القطاع حيث تحدثت كلثوم ناصر، سيدة الأعمال الرائدة والعضوة في الغرفة التجارية بعدن، لمركز صنعاء للدراسات قائلة إن الحرب أدت إلى تراجع عضوية النساء في الغرفة التجارية من حوالي 20 إلى 6 نساء فقط. الحرب أجبرت الكثير منهن على إغلاق أعمالهن التجارية أو الفرار من البلاد.

لكن سرعان ما بدأت ناصر تلحظ تغيرات في مجرى الأمور: فقد ازداد عدد رائدات الأعمال في عدن بشكل مطرد، ومن خلال حديثها مع العديد من هؤلاء النسوة، أدركت أن الغالبية العظمى منهن لم يسبق لهن إدارة مشروع تجاري من قبل، قائلة “وجدنا أن من أبرز المشاكل التي تعاني منها النساء هو عدم وجود منظمة تقدم لهن العون لبدء مشاريعهن، وإجراء دراسات الجدوى، وتحديد آليات العمل والتسويق لمشاريعهن، أو توفير الحماية القانونية لهن لضمان حقوقهن”، مؤكدة حاجة رائدات الأعمال الجدد إلى الدعم لتطوير مشاريعهن. هذا ما دفعها لتأسيس اتحاد مالكات المشاريع الصغيرة، الحاصل على ترخيص من الغرفة التجارية في عدن عام 2016، لمساعدة رائدات الأعمال على صقل حنكتهن التجارية. بحلول مايو/ أيار 2022، بات الاتحاد يضم ما يقرب من 1200 سيدة أعمال، بعد أن كان العدد لا يتجاوز 150 عند تأسيسه.
مزيج من الحاجة والفرص ساهمت في ظهور هذا التوجّه. تقول ناصر: “أسفرت الحرب ظروفًا اقتصادية مزرية أثرت بشكل كبير على النساء”، حيث أدى الانهيار الاقتصادي العام إلى فقدان العديد من الأسر مصادر دخلها -يكسبها عادةً أرباب الأسرة من الذكور -مما أجبرها على البحث عن مصادر دخل جديدة.

أوجد اقتصاد الحرب طبقة اجتماعية اقتصادية جديدة ذات ثروة طائلة في مدينة عدن، وبدورها أحدثت تغييرًا في الطلب على السلع والخدمات. ولتلبية احتياجات هذا السوق الجديد، بادرت رائدات الأعمال غالبًا بتحويل المهارات التقليدية -مثل الطهي وصنع البخور والعطور والخياطة والحرف اليدوية الأخرى -إلى مشاريع تجارية صغيرة غير رسمية.

تواجه جميع الأنشطة التجارية في عدن سلسلة من التحديات، مثل سوء الأوضاع الأمنية، وعدم استقرار أسعار الصرف وتقلب الأسعار، ونقص الخدمات، وصعوبة الحصول على التمويل، لكن التحديات التي تواجه رائدات الأعمال مضاعفة بسبب الأعراف المجتمعية التي تمنح الهيمنة للذكور. المرأة تجد نفسها مجبرة على التعامل مع تهديدات تمس سلامتها الشخصية عند خروجها من المنزل، فضلًا عن نظرة المجتمع الازدرائية والمشككة بالمرأة المنخرطة في الأعمال التجارية. عدم تقدير انخراط المرأة في الأعمال التجارية يعرض سيدات الأعمال اليمنيات لسلوك عدواني من قِبل أقرانهن الذكور والمسؤولين الحكوميين الذين يتعيّن عليهن التعامل معهم.
في هذا المقال، يسلّط مركز صنعاء الضوء على رائدات الأعمال في عدن، والتحديات والفرص الماثلة أمامهن، والديناميكيات المعقدة التي أدت إلى زيادة عدد المشاريع التجارية المملوكة لنساء.

اختلالات السوق تحفز الأعمال الحرة
عام 2013، كانت عهد عيسى وزوجها ينتظران طفلهما الأول. استقالت عهد آنذاك من وظيفتها كمهندسة حاسوب استعدادًا لدورها الجديد كأم، لكن ما لبثت أن شعرت بفراغ كبير في قضاء يومها دون عمل. بدأت في صنع الهدايا التذكارية لتوزعها على الأصدقاء وأفراد الأسرة عند قدوم مولودها، وسرعان ما أثنى الجميع على إبداعها مما شجعها على صنع الهدايا التذكارية للأقارب لتوزيعها في مناسباتهم الخاصة. أدركت عهد سريعًا إمكانية تحويل هذه الهواية إلى مشروع تجاري ومصدر دخل لأسرتها: فهي تجد متعة عند قيامها بهذا الأمر وتملك موهبة واضحة، والأهم من ذلك يمكنها العمل من المنزل ورعاية مولودها في نفس الوقت. بتشجيع من زوجها، بدأت عهد في استثمار رأسمال صغير لشراء الطابعات وغيرها من المستلزمات تمهيدًا لإطلاق مشروعها.

اليوم، أصبحت عهد (ذات الـ34 عامًا) منظمة حفلات زفاف ومناسبات ذات صيت واسع في مدينة عدن، وهذا الصيف اشترت زيًا جديدًا لموظفيها البالغ عددهم 23 موظفًا. تقول عهد إن هجوم الحوثيين على عدن عام 2015 وفترة انعدام الأمن التي أعقبت تحرير المدينة تسببا في توقف حفلات الزفاف والمناسبات بشكل كامل تقريبًا، إلا أن السوق شهد نموًا مطردًا بعد ذلك.
“تغير المجتمع بعد الحرب، وتغيرت متطلبات السوق” على حد قولها، مضيفة “اتسمت حفلات الزفاف والمناسبات قبل الحرب بالبساطة، كلًا حسب قدرته المادية”، حيث اقتصرت المناسبات الباذخة على أغنياء المجتمع، مثل أسر رجال الأعمال والسياسيين البارزين. تقول عهد إن خدمات تنظيم المناسبات اقتصرت -خلال السنوات الأولى من الحرب -عادة على قلة قليلة من أفراد المجتمع ممن لديهم القدرة المادية على تحمل تكاليفها.

مع احتدام الصراع في اليمن، ظهرت في عدن -العاصمة المؤقتة التي اتخذتها الحكومة المعترف بها دوليًا مقرًا لها -طبقة اجتماعية جديدة مرتبطة بالجماعات المسلحة والمضاربين في سوق العملة، ممن يمكنهم الوصول بسهولة إلى العملة الصعبة. لم تتوانَ هذه المجموعة من “الأثرياء الجدد” عن التباهي بثرائها من خلال إقامة مناسبات اجتماعية باذخة، الأمر الذي رافقه تقبل لهذه النزعة المادية من جانب الكثير من أبناء المجتمع. اليوم، أصبحت حفلات الزفاف المصممة بشكل احترافي حلمًا يراود العرائس الشابات، ويجد الكثير من الناس أنفسهم مضطرون لإقامة احتفالات تحفظ مكانتهم في أعين المجتمع. حسبما ذكرت عهد، يقترض الكثيرون من أبناء الطبقة الوسطى المال لإقامة حفلات فخمة لا قدرة لهم على تحمل تكاليفها.

كانت عهد تعمل غالبًا بمفردها قبل اندلاع الحرب، حيث اقتصر عملها على تصميم الهدايا التذكارية الموزعة في حفلات الزفاف وتزيين طاولات كعكة الزفاف. أما اليوم، أصبح بإمكانها -هي وفريقها المتفرغ تمامًا -إدارة وترتيب كل التفاصيل من الطعام والموسيقى والهدايا التذكارية والزينة في أي مناسبة، بما في ذلك حفلات الزفاف وحفلات التخرج والأعياد وغير ذلك. ومع توسع نشاطها خارج المنزل، أصبحت عهد عيسى تستأجر اليوم مستودعين لتخزين السلع والمستلزمات التي تحتاجها، لكن رغم ارتفاع الطلب على خدماتها ونمو مشروعها، تقول عهد إن عملها لا يزال مُهددًا في البيئة الحالية.
بالنسبة لها، يعتبر الأمن أحد الشواغل الرئيسية. بحُكم إقامة معظم المناسبات في المساء، يساورها القلق على موظفيها أثناء تحركهم بالمدينة في وقت متأخر من الليل، في ظل انعدام سيادة القانون والاضطرابات السياسية التي تسود المدينة. تقول عهد إن التقلبات الشديدة في قيمة الريال اليمني كبّدت أعمالها خسائر كبيرة وغير متوقعة بحيث أصبح المبلغ الذي تتفق عليه مع الزبون لا يغطي التكاليف. لتجنب ذلك، أصبحت جميع اتفاقياتها مع العملاء مُقوّمة بالريال السعودي منذ بداية العام، حيث تكلف حفلات الزفاف عادة ما بين 5000-25000 ريال سعودي (1330-6650 دولارًا). إلى جانب التحديات المذكورة أعلاه، يشكل نقص الوقود وانقطاع التيار الكهربائي تحديات إضافية.

تقول عهد: “لا نشعر [في الوقت الراهن] باستقرار في الوضع المالي يخولنا بدء الإجراءات القانونية للتسجيل ودفع ضرائب ورسوم إضافية”، مضيفة أن تسجيل عملها بشكل رسمي سيُكلف مليون ريال يمني فضلًا عن رسوم أخرى رسمية وغير رسمية. تستطرد قائلة “في ظل عدم استقرار الأوضاع، نعمد في بعض الأحيان إلى تغطية الخسائر من أرباح جنيناها من أنشطة أخرى”.
أحلام مؤجلة
تحدثت أنهار -وهي من سكان عدن فضلت عدم الكشف عن هويتها والاكتفاء بذكر اسمها الأول فقط -إلى مركز صنعاء عن دراستها في مجال هندسة الاتصالات بجامعة عدن قبل الحرب، وكيف كانت تحلم بالحصول على وظيفة في القطاع العام مثل والدها. اليوم، لم يعد الراتب الشهري الذي يتقاضاه والدها يكفي لتغطية احتياجات الأسرة حتى لمدة أسبوع واحد، وهو الواقع المُر الذي دفع أنهار للتوقف عن دراستها بحثًا عن مصدر دخل يلبي الاحتياجات الملحة للأسرة في الوقت الراهن.

انتهى بها المطاف إلى إطلاق متجر إلكتروني على الإنترنت، تعرض فيه ملابس عصرية من علامات تجارية معروفة كانت قد بدأت في استيرادها عبر البرّ من السعودية، بمساعدة شقيقتها المقيمة هناك. يلقى مشروعها رواجًا لدى فئة جديدة من المتسوقين، ويمكنها كسب ما يعادل راتب ثلاثة أشهر من طلبية واحدة.

أنهار هي مجرد واحدة من بنات جيلها اللواتي أجبرهن الواقع الاقتصادي، الذي تسببت به الحرب، على منح الأولوية للحاجة الملحة لإيجاد مصدر دخل على حساب الحياة التي كن يطمحن لها. في سياق الطفرة الأخيرة لريادة الأعمال النسائية في عدن، من الصعب تبيُّن عدد النساء اللائي بدأن وأدرن هذه الأعمال بمحض إرادتهن، وكم منهن جرى دفعهن إلى القيام بذلك من قِبل أزواجهن وأسرهن، وكم منهن أملت عليهن ظروف الحياة والحاجة إلى إبقاء هذا الخيار.
عوائق تحول دون الاندماج في الاقتصاد
تقول كلثوم ناصر إن العديد من رائدات الأعمال يفضلن عدم تسجيل مشاريعهن لدى السلطات المحلية أو استخراج سجل تجاري، ويُعزى ذلك إلى الرسوم التي يقتضيها التسجيل ويتعيّن عليهن دفعها، فضلًا عن خوفهن من فرض رسوم وضرائب إضافية عليهن بعد ترخيص أعمالهن من السلطات المحلية. مع غياب دولة فاعلة، ترى العديد من رائدات الأعمال في عدن أن اتباع الإجراءات الرسمية مسألة معقدة ومكلفة ولن تعود عليهن بأي فائدة تذكر. تضيف ناصر قائلة إن رائدات الأعمال يُستهدفن بصفة خاصة من قِبل موظفين حكوميين غير نزيهين، ممن يظنون أنهن يجهلن حقوقهن القانونية ويسهل ابتزازهن.

غير أن العمل دون سجل تجاري يجعلهن عرضة لدفع رسوم من تحت الطاولة لموظفي البلديات، ومسؤولي الضرائب، وقوات الأمن، وغيرهم ممن يطلبون رشاوي للسماح لهن بمزاولة أعمالهن. فضلًا عن ذلك، ينطوي مزاولة العمل بشكل غير رسمي على مخاطر رفع الإيجارات بشكل كبير ودون سابق إنذار من قِبل مالكي العقارات، لعدم وجود عقد قانوني مبرم بين صاحبة العمل ومالك العقار.

إن توعية رائدات الأعمال بشأن حقوقهن القانونية وكيفية ممارستها هو أحد المجالات التي ركز عليها اتحاد مالكات المشاريع الصغيرة على حد قول ناصر، وكان ذلك سببًا في استقطاب مزيد من النساء للانضمام لعضويته. كما أن عضوية ناصر في الغرفة التجارية والعلاقات التي تربطها مع المسؤولين في السلطات المحلية ساهمت في توفير مزيد من الحماية لعضوات الاتحاد.
تقول ناصر “إلى جانب حل بعض المشاكل التي تواجهها رائدات الأعمال مع السلطات الرسمية -خاصة اللائي يزاولن أعمال غير مسجلة رسميًا -نقوم بالتواصل عبر شبكاتنا مع السلطات المعنية لإعفائهن من الرسوم [التي تسعى السلطات لفرضها]”، لكنها ترى وجود حاجة إلى توفير المزيد من المساعدة، بما في ذلك مبادرة الحكومة بتكليف هيئة رسمية تُعنى بمساعدة رائدات الأعمال على تثبيت حقوقهن القانونية ودرء أي انتهاكات ضدهن.

ترى ناصر أن هيمنة الذكور على بيئة ممارسة الأعمال التجارية تمثل عقبة رئيسية أمام رائدات الأعمال. ففي حين يعقد التجار الذكور صفقات مع بعضهم مبنية على الاحترام بشكل غريزي، هناك بعض من تجار الجملة والموردين عديمي الضمير، ممن يظنون أن المرأة التي تعمل خارج منزلها ليس لديها رجل يحميها. ومن ثم، تواجه رائدات الأعمال عادة تلاعبًا في أسعار المواد الأساسية اللازمة لتشغيل مشاريعهن أو تغييرات في شروط العقد المتفق عليه.

بالتالي يضع اتحاد مالكات المشاريع الصغيرة نصب أعينه زيادة الحنكة التجارية لدى عضواته. وتحقيقًا لهذه الغاية، يقدم الاتحاد دورات تدريبية مجانية حول إدارة الأعمال في القطاع الخاص، مثل كيفية إجراء دراسات الجدوى وإطلاق الحملات التسويقية، ويقدم استشارات للشركات الناشئة في كيفية استدامة المشاريع. كما يتيح الاتحاد فرصًا للتشبيك على نطاق واسع وتجربة المنتجات وتسويقها من خلال إقامة البازارات والمعارض الكبيرة، حيث تعرض رائدات الأعمال منتجاتهم وخدماتهم على المشاركين والحضور. ذكرت ناصر أن اتحاد مالكات المشاريع الصغيرة نظم حتى الآن حوالي 20 معرضًا من هذا النوع.
وفقاً لناصر، يظل صعوبة الحصول على التمويل أحد العقبات الأساسية التي تواجه رائدات الأعمال، وهي مشكلة قائمة قبل اندلاع الحرب وتفاقمت مع مرور السنوات. تصف ناصر بيئة تفرض فيها البنوك وغيرها من المؤسسات التمويلية شروطًا تعجيزية للحصول على قروض وهو ما يحد من قدرة المرأة على تنمية مشاريعها. في السابق، كانت رائدات الأعمال ذوات المشاريع الصغيرة قادرات عادة في الحصول على قروض مقابل رهن عقارات، إلا أن حالة انعدام الأمن التي تسود مدينة عدن، أحجمت المُقرضين الذين يدركون أن وضع أيديهم على تلك العقارات في حالة التخلف عن السداد يكاد يكون مستحيلًا. عوضًا عن ذلك، أصبحت الجهات المُقرضة تطلب تسليم الذهب كضمان، وهو شرط يصعب على الكثيرات استيفاؤه أو غير مستعدات لقبوله. كما أن أسعار الفائدة الباهظة على القروض (التي تصل إلى 30 في المائة في معظم الحالات، حسبما أفادت ناصر)، وشروط سداد القروض الصارمة، وتذبذب أسعار الصرف التي يمكن أن تتلاشى معها قيمة الأرباح تدفع النساء لصرف النظر رغم تمتعهن بأهلية الحصول على قروض لمشاريعهن الصغيرة.

التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها اليمن خلال أكثر من سبع سنوات من النزاع كانت كارثية، وانبثق من رحمها اقتصاد الحرب، وقطاع عام شبه مشلول لا يتقاضى العاملون فيه رواتبهم في أغلب الأحيان، وقطاع خاص يهيمن عليه معدل أجور زهيدة بعد أن عصف به انعدام الأمن وانهيار الريال ومعدلات التضخم. وجد العديد من الطلاب أنفسهم مجبرين على التوقف عن دراستهم الجامعية والتخلي عن طموحاتهم للمساعدة في إعالة أسرهم. كما تخلى العديد من الرجال، العاطلين عن العمل أو أولئك الذين لم يتقاضوا أجورًا، عن وظائفهم وانضموا لجبهات القتال بغية الحصول على رواتب كجنود. إلا أن هذه التحديات مجتمعة خلقت فرصة سمحت لرائدات الأعمال في عدن بدخول عالم الأعمال الحرة.