اليمن الإقتصادي :

نجيب الكمالي
تسببت الحرب التي تدخل عامها السابع بعد أيام، بالعديد من الكوارث والأضرار الكارثية التي لم يسلم منها أحد.

أجبرت هذه الحرب آلاف النساء على الخروج من منازلهن بغية البحث عن مصادر دخل مناسبة لإعالة أسرهن وأولادهن. المجتمع اليمني برمته هو المتضرر الوحيد من هكذا حرب عبثية. ففي ظل انقطاع الرواتب للعام الخامس على التوالي، وانعدام الخدمات الأساسية الضرورية، وشحة فرص العمل المتوافرة في سوق العمل اليمني الذي بات يشهد ركودًا شبه تام، في ظل هكذا متغيرات، وجدت المرأة اليمنية نفسها أمام خيار إجباري للخروج من المنزل صوب سوق العمل، بحثًا عن مصادر دخل آمنة تفي بالمتطلبات الضرورية لعائلاتهن خوفًا من شبح الجوع والموت الماثل أمام أعينهن.

في مقصف مدرسة خاصة بأمانة العاصمة صنعاء، وجدت كرامة محمد مرشد ضالتها، وهي أرملة تعول ست فتيات.

تتنهد السيدة الكريمة، وهي تحكي لـ"خيوط"، خلاصة سريعة لخمس سنوات مضت من عمر كفاحها في حياتها العملية. تقول: "لم يكن أمامي من خيار سوى الخروج من البيت صوب سوق العمل، رزقني الله بست بنات ليس لهن عائل سواي. عملت في البدء في مقصف مدرسة أهلية مدة سنتين. كانت مغامرة كبيرة، لكنها شكّلت أساسًا قويًّا لاكتساب الثقة بالنفس".

بدأت كرامة الخطوة الثانية في مشوارها العملي أكثر ثباتًا وقوة بافتتاحها "بوفيه" خاص بها في مدرسة أهلية أخرى. تطور الأمر لتفتح كرامة ثغرة للنور والأمل وهي تحفر في جدار حياتها التي وهبتها لفلذات كبدها الست، وما لبثت أن أصبحت تلك الفتحة الصغيرة معلَمًا يلحظه بعض المارة ليستوقفهم طلبًا لمبتغاهم من بوفيه الخالة كرامة.

اكتسبت الخالة كرامة مهارة عالية في طهي أصناف المأكولات العدنية الشهية، يأتي "الزربيان" في مقدمتها. الزربيان وبقية الأطباق العدنية الشهيرة، جعلت الناس يتذوقون نكهة ومذاق عدن في قلب صنعاء، ومعه كانت شهرة الطاهية الماهرة تزداد اتساعًا.

تواصل " الخالة " كرامة - كما يسميها كل زبائنها- حديثها لـ"خيوط"، وهي تشعر بمذاق التحدي وكسب رهان الحياة: "اليوم أصبحت الفتحة الصغيرة مطعمًا صغيرًا، يعمل بشكل مناسب لتلبية طلبات الزبائن بنظام السفري غالبًا".

للخالة كرامة فريق نسائي متكامل يعمل بمعيتها كخلية نحل، في المطبخ وفي الكاشير الخارجي، فيما تتولى ابنتها الصغرى مناولة الطعام للزبائن.

بابتسامة رضا تختم حديثها لـ"خيوط": "الحمد لله أصبحنا مستوري الحال. اليوم ابنتي الكبيرة تدرس في الجامعة تخصص محاسبة، فيما تتوزع بقية أخواتها في الصفوف الثالث الثانوي والتاسع والسادس والثالث أساسي، وواحدة من بناتي تزوجت ومستقرة بحياتها".
تهاني أب وأم في آن 

بعد التحاقها بتخصص البيولوجي-كيمياء جامعة صنعاء، كان القدر يرتب لتهاني التحاقًا تاليًا في عش الزوجية. لم يكن الأمر كما كانت تحلم؛ تغيرت حياتها كليًّا، وكان رد الفعل عكسيًّا بالمطلق. فبالتزامن مع ولوجها قفص الزوجية، جاء إعلان خروجها من عتبة حلمها الجامعي وهي في السنة الثالثة- قبل الأخيرة.

الفتاة التي غادرت أسوار جامعتها الحبيبة على مضض، كانت على موعد مع حلم جديد وموعد جديد بقدوم طفلها الأول. ما لبثت أن رزقت بطفل وطفلة على التوالي في تالي الأعوام.

بعد انفصالها عن زوجها واصلت حياتها كربة بيت. كرست حياتها لتربية أطفالها الثلاثة، بعدها قررت خوض مرحلة الاعتماد على النفس.

تقول تهاني في حديثها لـ"خيوط": "بدأت أول مشروع خاص بي من خلال فتح محل ملابس في مول شهير وسط العاصمة صنعاء، لكن ما لبث أن انتهى بالفشل وعدم القدرة على دفع الإيجار". شهد سوق العمل ركودًا كبيرًا، وانخفضت القوة الشرائية إلى أدنى مستوياتها، فانعكس ذلك، حسب تهاني، على هيئة "فشل وإفلاس لأصحاب المشروعات الصغيرة، وبالأخص المشاريع الصغيرة للنساء".

حاولت تهاني استعادة حلمها الجامعي مجددًا، ولو متاخرًا، لكنها لم تجد نفسها في الحرم الجامعي. وجدت نفسها غريبة وسط جيل مختلف بعد سنوات من الغياب والهجران. لقد فات الأوان، وما قد فات مات كما يقولون. عادت تهاني أدراجها صوب منزلها لتواصل مشوار كفاحها الحياتي لأجل أطفالها الثلاثة.

تمتلك تهاني حسًّا مرهفًا وعقلًا واعيًا ومدركًا لتفاصيل الأحداث التي تعصف بالبلاد، وتتحدث عن غالبيتها بامتعاض كبير. انخفض سقف أحلامها على ما كان عليه سابقًا، لكنها لم تستسلم. فتحت محلًا صغيرًا (كشك) في أحد المولات لا تتجاوز مساحته مترين في مترين، وبإيجار شهري 56 ألف ريال (قرابة 100$)، إضافة لفاتورة الكهرباء، ومسلسل جبايات لا تنقطع، "دفعت إيجار شهري يناير وفبراير من مدخراتي في البيت، فالعمل شبه ميت هذه الأيام"، تضيف تهاني.

 بحسرة تتذكر مكانة المرأة اليمنية اليوم مقارنة بمكانتها في الماضي القريب، حد تعبيرها، حيث "كانت للمرأة هيبة واحترام في أي مكان تحل فيه". تغير الحال اليوم بشكل كلي، لكن المرأة اليمنية ما زالت تحفر في الصخر وتأبى أن تستسلم للطوفان.

بامتعاض تتحدث عن النظرة البشعة التي أصبحت تلاحق البنات العاملات اليوم، النظرة إليهن كصيد سهل المنال، هي خليط من التعسف والظلم يصعب احتماله، حد وصفها.

 ترى تهاني أن انهيار الاقتصاد هو سبب كل الكوارث الماثلة اليوم، وهو السبب الرئيس لـ"فساد الأخلاق، وزيادة النصابين، إضافة إلى أكل حقوق النساء "الميراث" من أبد الآبدين"، حسب تعبيرها. تأمل تهاني السدمي بـ"شوية اهتمام وتقدير لسيدات الأعمال". لديها طموح وبعض المهارات العملية اللازمة لسيدات الأعمال بالفعل، وإلى ذلك، لديها بطاقة عائلية باسمها، كمعيل ورب أسرة مكونة من ولدين وبنت. يخوض ابنها الأكبر رفقة أخته مشوارهما الجامعي، بينما تقف خلفهم امرأة صلبة بصفة مشتركة كأب وأمّ في آن، وبأوراق ثبوتية رسمية تؤكد حقها بذلك. أما ابنها الآخر فقد أحجم عن مواصلة تعليمه الجامعي تمردًا منه على واقع لم تعد للشهادة الجامعية أي معنى، حد تعبيره.
إنتصار 

 في الضفة الأخرى تعطي إنتصار عبدالله خيران، جل اهتمامها وطاقتها لأجل مشروعها الخاص، وتحيطه بالرعاية الكاملة حتى يبلغ أشده، وتنشد الانتصار لا سواه.

عقب تخرجها من جامعة صنعاء، بتخصص علوم الحاسوب العام 2007/ 2008، بدأت إنتصار خطوتها الأولى في مشوارها المهني. كان الهدف إثبات الذات وعدم الاستسلام لـ"وضع الكنبة". جربت حظها كمدرسة كمبيوتر في مدرسة خاصة لعام واحد، وبعد أحداث ثورة 11 فبراير 2011، كان الاستغناء عنها وعدد من المدرسات، في ذات العام، مصيرًا مشتركًا بينهن.

على الفور كانت إنتصار تخوض غمار تجربة جديدة، وفي مجال مختلف. عملت في مجال المسح الميداني لجهة حكومية مدة سنة، استطاعت خلالها جمع مبلغ مالي مناسب لبدء مشروع خاص. لذلك تمكنت من إعلان قرارها الجديد بشجاعة وبدون تأجيل.

بدأت إنتصار مغامرتها الجديدة في مجال التجارة عبر الإنترنت. كانت البداية باستيراد الكماليات المنزلية من الصين، واستمرت في عملها بانتظام، حتى حدوث انتكاسة عصفت بسمعة التسويق الإلكتروني وتجارة الإنترنت حينها.

تقول إنتصار لـ"خيوط": "ظهرت في تلك الفترة أيام الأعياد والمواسم، عمليات نصب إلكترونية"، وكان الحدث قويًّا، حد وصفها، ما حتم عليها التفكير بجدية لتغيير نمط مشروعها ومغادرة عالم التسويق الإلكتروني صوب التجارة في الواقع. اتجهت إنتصار خيران لفتح محل إكسسوارات ومطليات/ بديل الذهب، منذ العام 2016.

اليوم تشعر برضا كبير وهي تحيط مشروعها بكل اهتمامها، وتراه يكبر أمام عينيها كل يوم.

"لاليتا".. ماركة مسجلة

عقب تخرجها من كلية التجارة، بتخصص علوم مالية ومصرفية العام 2016، من جامعة المستقبل بصنعاء، عملت في الجامعة ذاتها، كمعيدة لفترة، ثم ما لبثت أن اتجهت صوب العمل الإداري.

لم تكن تشعر لول جمال عون، بالرضا آنذاك. بدأت مشوار البحث عن الذات، فاتجهت للعمل في مجال "الزركونات"، وما لبثت أن أسست متجرها الإلكتروني الخاص "لاليتا زركون"، نهاية العام 2018.

تتحدث لول جمال لـ"خيوط" بحماسة: "هدفي أن يكبر رأس مالي وأن أفتتح مشروعي الخارجي، بدأت تعلم لغة جديدة، وآمل أن يصبح متجري ماركة مسجلة".

- خيوط