اليمن الإقتصادي :

 

 

رغم التراجع الكبير في أعداد المعاصر التقليدية للزيوت الطبيعية بمدينة صنعاء القديمة، إلا أنّ قلةً منها استطاعت الاستمرار في عملها، في ظلّ التحدّيات التي أفرزها التطور التكنولوجي والزيوت المصنّعة والمستورَدة، بالإضافة إلى انعكاسات الحرب المستعِرة هناك للعام السابع على التوالي، والتي ألقت بظلالها القاتمة على مختلف مجالات الإنتاج.

ما زال البعضُ من أفراد المجتمع اليمني يعتمدُ على الزيوت التقليدية التي تنتجها هذه المعاصر، بما فيها الموجودة بمدينة صنعاء القديمة، وهو ما يجعلُ هذه المعاصر قائمة، وتعملُ معتمدةً على ما كانت معتمدةً عليه منذ مئات السنين كتراثٍ يحكي فصلاً من فصول تاريخ هذه المدينة العتيقة، التي ما زال أبناؤها متمسكين بهذه المعاصر، ويحافظون عليها قدْر الإمكان.

 

المعصرة موروث

 يقولُ سليم القرماني، (40 عامًا) صاحب معصرة باب الحارة، نسبة لموقعها على مدخل الباب الجنوبي لحارة الجامع الكبير بصنعاء القديمة، : تتمتعُ زيوت المعاصر التقليدية برائحتها الزكية وجودتها العالية، بخلاف المعاصر التي تعملُ بالكهرباء، التي يرى (سليم) أنّ عملها أكثر سهولة وأقلُّ مجهودًا، إلا أنها تُحرقُ الحبوب نتيجة سرعتها في العصر وجسمها الحديدي، ما يؤدي إلى احتراق الزيت وفقدانه خصائصه، بدليل رائحته المحترقة – حدّ تعبيره.

فيما يستغرقُ عمل المعصرة التقليدية وقتًا أطول وجهدًا أكثر؛ حيث يقومُ الجمل، الذي يرتكز عليه عمل المعصرة، بالدوران حول المعصرة بعد أنْ يتم تغطية عينيه؛ حتى لا يصابُ بالدُّوار، وليتم إيهامه بأنه يسيرُ في سفرٍ طويل، حيث يستمر بالدوران في المعصرة الواحدة لمدة تتجاوز ثلاث ساعات.

ما زالت هذه المهنة تقاومُ رغم عديدٍ من التحديات، ويقولُ سليم: «سأظلُّ متمسكًا بمهنة آبائي وأجدادي مهما كانت الظروف، وإنْ شاء الله سأورثها لأبنائي من بعدي»، «هذه المعصرة إرثنا وتاريخنا، حيث عملَ فيها أجدادي منذ أكثر من 400 عام حتى وصلت إلى أبي، ومن بعده أخويه الاثنين، ثم أخي الأكبر، ثم أنا».

ويشيرُ إلى الأهمية الكبيرة التي حظيت بها المعاصر قديمًا، والتي كانت تنتشرُ بالعشرات في أحياء مدينة صنعاء القديمة؛ نتيجة الاعتماد على منتوجاتها من الزيوت في الغذاء والتداوي، بالإضافة إلى استخدام سليط الترتر (الخردل) في الإنارة قبل دخول الكهرباء، التي أسهمت مع جملة من التحديات إلى تراجُع أعداد المعاصر التقليدية إلى خمس معاصر.

وتختلفُ صناعة حوض المعصرة بحسب المنطقة، حيث يُصنع الحوض (الإناء) الذي توضع فيه البذور التي يُراد عصرها، في المناطق الجبلية، من الصخر، أما في المناطق الساحلية فيتم صناعته من جذوع أشجار العلب (السِّدْر) الكبيرة؛ حيث يتم نحت الحوض من الداخل بشكلٍ مخروطي مجوف بقُطْرٍ يتجاوزُ المتر عند الفوهة، وقرابة المتر ارتفاعًا.

يستغرقُ عمل المعصرة التقليدية وقتًا أطول وجهدًا أكثر؛ حيث يقومُ الجَمَل، الذي يرتكز عليه عمل المعصرة، بالدوران حول المعصرة بعد أنْ يتم تغطية عينيه حتى لا يُصابُ بالدُّوار، حيث يستمرُّ بالدوران في المعصرة الواحدة لعدة ساعات.

 

حبوب المعصرة

يتعاقدُ (سليم) مع أحد تجار الحبوب، أو مع المزارعين لشراء الكميات اللازمة من حبوب (السمسم، الخردل، الحبة السوداء، اللوز، حب الرشاد)، وغيرها من الحبوب التي يتم عصرها لاستخراج الزيوت الطبيعية منها، وهي الحبوب التي يتم جلبها من محافظات مختلفة كـ(الجوف، والحديدة، وأبين، وصنعاء، ومأرب)، وقبل البدء بعملية العصر يتم تصفية الحبوب المراد عصرها من الشوائب والعِيدان.

عقب ذلك يقومُ سليم بوضْع الحبوب في حوض معصرته الحجري، الذي يُعتقدُ أنّ نحته يعودُ للعصر القديم.. والحوض مثبت على صخرة دائرية مغروسة في الأرض، وبداخله عود خشبي كبير يبرزُ إلى الخارج، يسمى القطب ذو نهاية كروية من الأسفل تُسهِّلُ عمله في طحْن الحبوب، ويرتبطُ من الأعلى بمقودٍ خشبي (الشناق)، مربوط بالجمل و(الزهاب) الذي يوضع على ظهر الجمل، والمرتبط بالقوس الذي يجرُّ بواسطته الكتلة التي تضمُّ حجرًا ثقيلًا يُمثِّلُ الثقل الذي يُمكِّنُ القطب من طحن الحبوب واستخراج الزيت منها.

يقولُ سليم شارحًا خطوات استخراج زيت السمسم: «عندما نقومُ باستخراج زيت الجلجلان (زيت السمسم) نضعُ حبوب السمسم في الحوض، ونضيفُ لها القليل من الماء، ويبدأُ الجمل بالدوران لمدة ساعة ونصف أو أكثر، بحسب كمية السمسم، ومن ثمّ نقومُ بإيقاف الجمل قليلاً، وقد صارت حبوب السمسم في منتصف العصر، ثم نعاودُ عملية العصر حتى يظهرَ الزيت، فنقومُ بتصفية الزيت من مخلفات العصارة بالمشَنّ والقماع، وينتجُ عن العصرة الواحدة خمسة لترات من السليط».

يضيفُ سليم: «قبل الحرب كان إقبال الزبائن على شراء الزيوت كبيرًا، وكان لديّ طلبات للخارج، لكن الآن توقفت الطلبات للخارج بسبب إغلاق المطار، فضلاً عن عزوف الكثير من الناس عن الشراء بسبب ظروفهم المعيشية، وكلّ هذا أثّر في عملنا بشكلٍ كبير».

 

الثقة

يثقُ اليمنيون بمنتج المعاصر التقليدية من الزيوت الطبيعية، خاصة الزيت، بدليل إقبالهم على شرائها رغم ارتفاع أسعارها في ظل توافر الزيوت المصنّعة والمستوردة، الأقل سعرًا، يؤكدُ ذلك (علي)، من أهالي محافظة ذمار، الذي التقته “اليمني الأميركي” خلال شرائه قنينة زيت السمسم عبوة (0.75) لتر من معصرة باب الحارة.

يوضحُ علي أنه يمتلكُ مزرعة بمحافظة ذمار فيها بقرة يحصلُ منها على السمن، إلا أنه يُفضِّلُ تناول الطعام بزيت السمسم، «أنا حريصٌ على شراء الزيت من هذه المعصرة؛ لأني استخدمه في الأكل أنا وزوجتي المصابة بزيادة الكوليسترول، خاصة بعد نصيحة طبيبها المعالج بتجنُّب أكل السمن، واستبداله بسليط السمسم».

فيما يؤكدُ الشاب الثلاثيني محمد علي، من محافظة عمران، حرصه على شراء زيت السمسم والخردل (الترتر) من المعصرة التقليدية؛ لفوائده الصحية، واستخدامها في التداوي من عدة أمراض، لافتًا إلى قناعات والديه في التداوي بها من الكحّة والبرد وآلام المفاصل والتهاب الأذن، فضلاً عن استخدامها لترطيب الجسم، خاصة للأطفال والنساء.. وهو أمرٌ لا يغني عن التداوي بالطب الحديث.

 

الحرب

ضاعفت الحرب المستعرة هناك من معاناة المعاصر التقليدية من عدة أوجه، حيث أفضت الأزمات المتلاحقة للمشتقات النفطية، خاصة مادة الديزل، إلى ارتفاع أسعار المحاصيل الزراعية، ومنها الحبوب التي تستخدمها المعاصر لاستخراج الزيوت كالسمسم والخردل والحبة السوداء واللوز والجرجير وحب الرشاد، وبالتالي ارتفاع أسعار زيوتها، فيما أسهمَ انقطاع رواتب جزءٍ كبيرٍ من الموظفين، في ظلّ تردِّي الأوضاع المعيشية، إلى ضعف القدرة الشرائية لدى المواطنين، وانخفاض مستوى الاقبال على شرائها، كما أدّى إغلاق مطار صنعاء إلى إيقاف عملية بيع وتصدير الزيوت الطبيعية للخارج.

يقولُ سليم: «قبل الحرب كان عملنا ممتازًا، لكن حاليًّا، وبسبب غلاء الديزل، ارتفعَ سعر الحبوب، حيث كنت اشتري قدح (وحدة كيل تقليدية) السمسم بمبلغ 30 ألف ريال، أما الآن فقد يصلُ سعره إلى 75 ألف ريال، بحسب نوعية وجودة الحبوب».

أدى هذا الفارق إلى ارتفاع أسعار الزيوت، فيتراوح سعر اللتر السمسم من 3500 ريال إلى 6 آلاف ريال، ويخضعُ السعر لنوعية وجودة الحبوب، وبحسب سليم فإنّ أجود أنواع الحبوب هي التي يشتريها من محافظة أبين، كما أنَّ السمسم الأسود أفضل من السمسم الأبيض.. (الدولار اليمني يساوي 590 ريالًا شمالاً، و840 ريالًا جنوبًا).

ويضيفُ سليم: «قبل الحرب كان إقبال الزبائن على شراء زيت السمسم وزيت الخردل وزيت الحبة السوداء وزيت اللوز، وبقية الزيوت، كبيرًا، وكان لديّ طلبات للخارج، حيث كان يأتي زبائن يطلبون 1000 ـ 1500 لتر سليط سمسم للسعودية، وطلبات لزيت الحبة السوداء إلى ماليزيا، لكن الآن توقفت الطلبات للخارج بسبب إغلاق المطار، فضلاً عن عزوف الكثير من الناس عن الشراء بسبب ظروفهم المعيشية، وكلّ هذا أثَّرَ في عملنا بشكلٍ كبير».

ويشيرُ إلى ارتفاع تكاليف عمل المعصرة، حيث يضطر إلى شراء جمَلٍ كلّ خمس أو ست سنوات، وذلك بسبب موته، أو يبدأُ بالعضّ، ويتكاسلُ في العمل. ويصلُ سعر الجَمَل إلى مليون ريال، ولفت سليم إلى أفضلية شراء الجَمَل الصغير؛ ليتسنّى له تعليمه وتربيته على العمل في المعصرة.

وعلى الرغم من كلّ ذلك يؤكدُ سليم أنه سيستمرُّ في عمله بالمعصرة، ولن يتخلى عنها مهما كانت الظروف.. «نحن ورثنا هذه المِهْنة عن آبائنا وأجدادنا، ولن نتركها مهما كانت الظروف».